اقرأ أيضاً: فيلم "واجب": الفلسطيني خارج إطار الأسطورة في محاورة الشيخ حسني وعم مجاهد، حاول داوود عبد السيد -بطريقةٍ رمزيّة- تبيان أنّ الأمر لا يتعلّق ببيت، بل بنمط من التفكير ، بتوضيح بؤس التمسّك بالأرض على حساب الناس، وبؤس الحاضر أيضاً الذي يعاني من انفتاح اقتصاديّ، سعى عبد السيّد إلى توضيحه بصورة معقّدة في "الكيت كات" وأفلامه الأخرى. لكنّنا نلمحُ في تجسيده لمحاورة الشيخ حسني وعم مجاهد فكرة الانتصار للإنسان على الأرض، وكأنّه درسٌ ضدّ الحنين، والارتكاس، والماضويّة التي تفرغ الحاضر من أيّ معنى. "الكيت كات" درسٌ في كيف يُفسد الهامش الحُرّ السلطة وكيف تعكّر السلطة صفوه وعليه، لا يبدو الحشيش الذي يعشقه الشيخ حسني كإدانةٍ أو كتعاطٍ وجريمة، كما حاول عم مجاهد وابنه يوسف حتّى وسم الشيخ حسني به، بل سيبدو الحشيش كنجاة أخيرة من الوحدة للشيخ حسني. ففي لحظة الاعتراف تلك، سيبكي قائلاً: "الحشيش ده هو الذنب الوحيد اللي في حياتي. بعد ما ماتت أم يوسف، ماكانش عندي حتى بني آدم أكلمه. أنا بكلم الناس حوالين الجوزه، بفضفض... بضحك وأغني في قعدة حلوة لغاية لما أموت". يوضّح داوود عبد السيد في جلسات الشيخ حسني مع رفاقه حول الجوزة كيف يصنع الهامش مجدَه الاستثنائيّ في حواري الليل، بالغناء والشرّب والضّحك الذي لا ينتهي.
اقرأ أيضاً: هل أخفق فيلم "حرب كرموز" في إظهار فظائع الاستعمار البريطاني؟ في "الكيت كات"، حاولَ داوود عبدالسيد المزج بين الواقعيّة في أعلى صورها والسخريّة التي تلفّ الشخصيّات وضرب من المقاومة للسّلطة بعملها الواضح والخفيّ الذي يفسد ليس الحياة المشاغِبة، بل الحياة البسيطة في تفاصيلها الصغيرة؛ فـ"الكيت كات" درسٌ في كيف يُفسد الهامش الحُرّ السلطة، وكيف تعكّر السلطة صفوه، وكيف تنخرُ سياسات الانفتاح الاقتصاديّ والغلاء "العرايا في الزحام". هذا الزحام لا أحد في حوارٍ مع داوود عبد السيّد (في كتاب داوود عبد السيد.. محاورات أحمد شوقي)، معلّقاً على شخصيّة الشيخ حسني بطل فيلم الكيت كات، بأنّ الاسمَ الذي كان مقترحاً والذي يؤمن عبد السيّد بأنّه يمثّل الفيلم هو "عرايا في الزحام"، بيد أنّ الرقابة، يقول عبد السيد، رفضت هذا الاسم، لأنّها "ربما ضدّ العرايا، أو ضدّ الزحام! ". من المعلومات المهمّة أيضاً التي ينبغي التنويه بها هي، وللمصادفة، أنّ عبد السيّد قد حوّل رواية أصلان من التركيز على "يوسف" ابن الشيخ حسني، ليغدو البطل الذي يتمركز حوله الفيلم هو الشيخ حسني نفسه؛ باعتباره الأعمى الذي يصدق فيه قول نزار قباني "ما أنتَ أعمى.. إنّما نحن جوقة العميانِ".
تميّزت سينما داوود عبدالسيد بالانخراط في الشارع المصريّ دون الوقوع في واقعيّة فجّة في فيلم الكيت كات، بالإضافة إلى المتعة التي تتّسم بها سينما عبد السيّد، والحوارات المليئة بالدراما، والانتصار للإنسان ضدّ السّلطة والأحجار والأزلام، فإنّ هناك ولعاً بتفاصيل المكان. في الكيت كات، يدخلنا داوود عبد السيّد إلى "الحارة" أو "المكان" المصريّ بكامل زخمه، من تفاصيل بسيطة، من ضيقٍ في الأزّقة، ومن تشابه في الاختيارات رغم الاختلاف الذي يميّز شخصيّةً عن أخرى، ومن هذا الزحام الذي تكتظ به الحياة، رغم أنّ السلطةَ والرقابة لا تقصر مخالبها عن هذا الزحام أيضاً، بل هي ترسمه، وتحدّده، وتخترقه على الدوام. أخرجَ عبد السيد الشيخ حسني كأعمى استثنائيّ، فهو يقدّم لنا أعمى غير الذي نعهدُ، بل هو أعمى بصير بالحياة، ما أفقده البصر ليس مرضاً عضوياً، بل بالأحرى وجع الحياة، و"النّور" الذي ذهبَ عندما روى للسّامرين حوله، في جلسة حشيش، كيف ذهب بصره، وعندما ينهي حكايته، يسأله "عميت؟"، فيرد الشيخ حسني: "اسمها راح النور.. مش عميت يا حمار". وللتأكيد على بصيرة -بل وبصر- الشيخ حسني، قدّم لنا عبد السيد الشيخ عبيد كأعمى نموذجيّ، فقدَ عينه عضويّاً في الوظيفة -ما سيضحكُ عليه الشيخ حسني لاحقاً بقوله "إصابة عمل يعني" في نوعٍ من السخريّة والمأساة ممّا تفعله الوظيفة بالإنسان-.